top of page
  • Writer's pictureNora Alrajebah

ما تعلمته من التنس

دروس حياتية من الملعب!


 


اكتشفت التنس، في لحظة تشبه ما مر به أرخميدس عندما صرخ يوريكا! يوريكا! بل لا أبالغ لو قلت أن لحظة اكتشافي للتنس تقارب في عظمتها، بالنسبة لي، اللحظة التي وطأت بها قدمي كولومبوس الأرض الجديدة. نعم، اكتشفت التنس، وبعد لحظة الاكتشاف تلك انفرطت في عقلي سُبحة من التساؤلات عن حياتي قبل التنس وأي طابع ستأخذه مجريات حياتي لو لم يبتسم لي الحظ لاكتشاف هذه اللعبة!


قد يبدو في كلامي هذا نوع من المبالغة، وليعذرني القارئ الكريم لكن "من ذاق عرف". على أي حال، بالصدفة المحضة تعرفت على هذه اللعبة، دلتني عليها الصديقة العزيزة غادة الدريس. في يوم من الأيام قبل عامين تقريباً، اقترحت علي أن أجرب التنس، كانت فكرة عابرة في محاولة لإيجاد نشاط خارجي يمكن للمرء أن ينغمس فيه خاصة بعد الجائحة. يجدر الذكر بأنه قبل ذلك اليوم لم يسبق لقدماي أن وطأت ملعباً للتنس ولم يسبق لي أن أمسكت بمضرب، لكني وجدت الفكرة، مجرد الفكرة، مغرية جداً. ذهبنا سوياً للتجربة، أعارتني غادة مضربها الأثير الأقدم، وهي تشرح لي كيف يجب أن أمسكه و كيف يمكن أن نحسب النقاط. أرسلت غادة الكرة الأولى، ولا اتذكر إن كنت استطعت أن أردها أم لا لكن اتيحت الفرصة لي أن أرسل بعض الكرات و قيمتني وقتها غادة اني "انفع العب تنس"، تلى ذلك سؤالها: "كيف تشوفين نفسك؟" وكان ردي: "شكلنا ممكن نتفاهم". اعارتني غادة مضربها، بكرم ولطف الأصدقاء المعتاد، إلى حين اشتري مضربي الخاص. وكأني في موعد مع القدر، سجلت في كورس التدريب التالي الذي سيبدأ بعد أسبوعين.


مضى شهر، وشهرين وثلاثة من التدريب المستمر لمدة سنتين تقريبًا وبكل فخر الآن ألعب في المستوى المتقدم. هذه التجربة ساهمت في صقل مهاراتي في اللعب وعلمتني دروس أوسع بكثير من حدود الملعب، اسرد بعضها فيما يلي.


الانضباط، أولاً


لا يستقيم للمرء أمر دون انضباط، ديباجة معتادة، لكن لا يوجد شيء أصدق من التجربة الفعلية لترى نتيجة انضباطك. التنس مثلها مثل كثير من الالتزامات التي تمر بنا، بالنسبة لي موعد حصة التنس موعد مقدس لا اتنازل عنه الا "بالشديد القوي". ثلاث حصص أسبوعياً احضرها بكل سعادة وأمحور جدول يومي حولها. دون هذا النوع من الانضباط لم أكن فعلياً قادرة على تطوير نفسي بالقدر الذي وصلت إليه. الانقطاع عن التمرين لن يجعلك تنسى اللعبة، لكن يمكن التماس أثر غيابك لمدة أسبوع أو اثنين بمقارنة مستواك بمستوى أقرانك، وهذا بحد ذاته دافع للاستمرارية والانضباط.


الدرس الأكبر، والأعظم والأبلغ: التصالح مع الخسارة والبدء من جديد


لم اعتد الخسارة، لست بدعاً من البشر بل الأمر أبسط بكثير كنتُ لا أعرف كيف أتعامل مع الخسارة و إلى وقت قريب كنت أتحاشى الدخول في أي معترك أعلم مسبقاً أن احتمالية خسارتي فيه عالية جداً. ولذلك، لم اختبر الخسارة كثيراً من قبل ولا أعرف كيف أتعامل معها. والأمر الذي أدركته بممارسة التنس هو أهمية معرفة كيف يمكن للإنسان أن يتصالح مع الخسارة (أو احتماليتها) وأن يستمر دون إحباط رغماً عن ذلك. حالياً تعلمت أن أقاتل بشراسة وأن أخسر (إن كان ولابد) بشرف، ولو بتحقيق نقطة واحدة في أخر جولة، تعلمت أن لا أفقد الأمل ولا استسلم بسهولة وأن أبذل كل جهد لقلب النتيجة. لا مانع لدي من الخسارة لكن المهم أن أخسر وأنا أعلم أني لم أذخر جهداً في المنافسة. وبطبيعة مباريات التنس كونها عبارة عن مجموعة من الجولات، لابد أن تتقبل خسارتك بشكل لحظي وتستمر بنفس المستوى. التعامل اللحظي مع الخسارة والمضي قدماً هو سر جمال التنس أو أي لعبة تنافسية. لذلك، أعتقد أنه من المهم ليصل الانسان إلى مرحلة نضج مرضية أن يعتاد على الخسارة عن طريق الانخراط في المنافسات الرياضية وهي تعتبر فضاءات آمنة للتدريب على المنافسة وتقبل الخسارة وصقل الذات دون خسارات فعلية (إلا لو كنت محترفاً).


أنافس نعم، لكن لا أفقد المتعة


معروف أن التنس هي a game of love، وهذا يعزى لحقيقة أن عدم تحقيق أي نقطة (أي صفر) يسمى love. تاريخياً، لا يعرف السبب الحقيقي لكن يقال أنه حين لا يحرز اللاعب أي فوز فهو يلعب بغرض الاستمتاع وحب اللعبة for the love of the game حتى مع نقاطه الصفرية. وهذه فكرة محورية أجدها عند غالبية من سعدت بلقائهم والتدرب معهم. وهي فكرة لطيفة جداً، نلعب نعم، نتنافس بضراوة نعم، لكن نحن هنا للمتعة وحب اللعبة. وهذا مبدأ يمكن تعميمه على جوانب كثيرة من الحياة، لابد أن لا يحمّل المرء الأمور أكثر مما لا تحتمل، ودائماً يمكن للمرء التموضع في مكان يسمح له بالاستمتاع مهما اشتدت المنافسة، وقل من ينجو من منزلقات التنافس مع الآخرين. المنافسة جيدة، ومحفزة أيضاً لكن على المرء إيجاد نقطة التوازن ما بين الغلو في التنافسية المعيقة بالضرورة للمتعة، وما بين المنافسة المحفزة لزيادة الإتقان. وما أعجبني في التنس أنه كما استلذ باللعب مع من يفوقني مهارة، أرى كيف يمكن لمباراة مع من هم أقل مني مستوى أن تحفزهم على تحسين أدائهم، لا تخلو حوارتنا الجانبية من بعض الملاحظات والتوجيهات من "القادم من بعيد". ونصيحتي لمن يعجز عن إيجاد نقطة الاتزان ما بين البينين، نافس نفسك، قارن أدائك اليوم بأدائك قبل شهرين وستجد الجواب.


كعب أخيل


هل كشف الخصم مواطن ضعفي؟

في التنس نقاط ضعفك واضحة وجلية جداً بل يمكن كشفها من أول إرسال. واللعبة ذات رتم سريع يتطلب التصحيح اللحظي للأخطاء وإلا فالخصم لن يرحمك. ومن السذاجة ألا يقر الانسان بنقاط ضعفه بل الإنسان أجدر بمعرفتها من غيره. تعلمت في التنس لا أن أقر بها فحسب، بل أن أناقشها مع زميلاتي والمدربة بكل انفتاح وتقبل وأن أعمل على تصحيحها مع التقدم في التدريب وأن احتفي مع مدربتي بطريقتنا الخاصة في كل مرة اتجاوز فيها نقاط الضعف وانتقل للمرحلة التي تليها.



قراءة الخصم


هل خصمك منهك؟

لاعب التنس الجيد ينبغي أن يتحلى بالنفس الطويل وأن يجيد اللعب بعد الإنهاك، فحين تبدأ أسوار الخصم بالتداعي شيئاً فشيئاً، تزداد شراسة الإرسالات و قوتها. وهذه أحد تكتيكات مباريات التنس، إن كانت المعركة عصية فلا بأس "هد اللعب"، دع خصمك ينتشي بالنصر المؤقت، وإذا جد الجد، يمكنك أن تقلب الطاولة وتحرز نصراً مؤزراً.


تحقيق المصلحة الفردية والجماعية في آن


هناك صراع أزلي ما بين اقتناص الفرصة لرد ضربة ما بطريقة مميزة و إحراز شيء من المجد الشخصي، و ما بين تركها لزميلك الذي لديه فرصة أفضل لرد الضربة بسبب مكانه في الملعب. هذا التحدي المستمر لتحليل الضربة بأسرع وقت و اتخاذ القرار الأصح ممتع جداً، و يضعك في موضع الاختبار بشكل مستمر. تختبر نفسك و دوافعك، هل تطمح لتحقيق أهداف شخصية بحتة أم تهتم بمصلحة الفريق؟ وإن أخطأت التقدير، تتعلم أن تعتذر لزميلك آنياً وتمضي قدماً وقد تشكل في ذهنك تصور أفضل لكيفية اتخاذ هذا النوع من القرارات لإحراز المصلحة الجماعية.


بين إقدام وتراجع


موضعك في الملعب الفسيح أثناء المباراة يشكل أحد أهم العوامل التي تساهم في قدرتك على رد الضربات بشكل جيد، قد تتقدم و المفترض عليك التراجع وقد تتراجع وكان لابد أن تتقدم. والند الجيد هو من يباغتك في موضع الإرسال لكي يضعف إمكانياتك على رد الكرة. على كلٍ، الأمر الذي يثير دهشتي دائماً هو الحاجة للتحرك بأسرع وقت ممكن لتزيد من احتمالات قدرتك على رد الضربات. تذكرنا المدربة دائماً أن نقف بشكل يسمح لنا بالتحرك بالشكل المطلوب بسرعة، كلتا اليدين على مقبض المضرب، الرجلين متباعدتين والركبتين غير مشدودتين. وبهذا الشكل يمكن أن يتحرك اللاعب بشكل ديناميكي حسب الضربة الموجه له. هذا المزيج ما بين الشدة واللين محوري في اللعبة، ومثلها في الحياة، التحرك بانسيابية أساسه تقلب أحوال الإنسان ما بين القبض والبسط. ليس من المنطقي أن تقبض على كل شيء، بل من النباهة أن ترخي حين يكون لابد من التراخي وتشد حين يكون لابد من الشدة.


الموازنة ما بين قوة الضربة ودقة التوجيه


أول لحظة أدركت بها سر اتزان المضرب بالتوازي مع الكرة، ذُهلت! فحين يميل مضربك إلى الأسفل قليلاً فكرتك إلى الشبكة أقرب، وحين يميل إلى الأعلى قليلاً فهي إلى السماوات أقرب. وليس التوازي فقط ما يحدد جودة الضربة، بل هناك عاملين إضافيين، هما قوة الضربة ودقة التوجيه. لا يكفي أن تحرص على اتزان مضربك وأن يكون موازي للكرة عالية كانت أو منخفضة بل لابد أن توجهها بطريقة جيدة وبالقوة المطلوبة لتزيد من احتمالات عدم قدرة الخصم على ردها. كل ذلك يجب أن تفكر به وتحلله وتتخذ قرارك بشأنه في أقل من ثانية.


سر الانسيابية والحضور


في المرة القادمة التي تلعب فيها مع أي شخص جرب أن تثني على أداءه الرائع و ضرباته الموفقة، ثم لاحظ كيف ينحدر أدائه بشكل دراماتيكي في الجولة التالية. وأنا شخصياً مررت بهذه التجربة عدد لا نهائي من المرات، والسبب بكل بساطة أن اللاعب ينتقل من حالة الحضور الكامل و الانسيابية being in the flow إلى حالة من اليقظة المستحثة induced awareness تمنعه من التماهي مع الضربات بانسيابية بشكل لا واعي. انتبهت لأثر التركيز المبالغ فيه بعد قراءتي لكتاب تيموثي غالوي The Inner Game of Tennis الذي أسهب في شرح حالة الحضور والانسيابية في لعبة التنس، وهو كتاب جميل جداً ومفيد للحياة ككل.


خاتمة، أعرف نفسك


أؤمن كثيراً بالحكمة اليونانية الأثيرة لقلبي "إعرف نفسك، Know thyself"، وأنا أظن أن أقل ما يمكن للمرء أن يقدمه لنفسه هو أن يعرفها حق المعرفة. يعرف خبايها ودوافعها ونقاط قوتها وضعفها كما هي و يسعى للإصلاح. ولا أجد أحداً أولى بالشفقة من امرئ جهل نفسه، وجهل خباياها عمداً أو اهمالاً أو خوفاً من مواجهة الذات. ولا ينبغي لمواجهة الذات أن تكون قاسية بل يكفي إدراك المرء مكامن ضعفه وقوته ليصلح نفسه. وجدت أن التنس، وما يشابهها من تجارب، كونها لعبة عقل وجسد بامتياز، فضاءات رحبة يمكن للإنسان أن يحلق فيها في رحلة مستمرة لمعرفة الذات وصقل عدد لا بأس به من المهارات الحياتية إن أراد!



275 views0 comments
bottom of page